أفضل قراءة لمجريات الحاضر تمر عبر تمحيص دروس التاريخ، فلا يمكن فهم وقع قرار المغرب إعادة علاقاته الدبلوماسية مع ألمانيا على الجارة الشمالية دون أن نخوض أولا فيما تمثله ألمانيا تاريخيا بالنسبة لإسبانيا.
كانت اسبانيا الجنرال فرانكو قاب قوسين أو أدنى من أن تشارك إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لكن لقاءا سريعا بين فرانكو وأدولف هتلر، رتبه السفير الإسباني في ألمانيا النازية “اويخينيو اسبينوزا دي لوس مونطيروس”، جعل فرانكو يعدل عن فكرة المشاركة المباشرة في الحرب والاكتفاء بالدعم السياسي لهتلر، ومن هذا الدعم مثلا أن القنصلية النازية بطنجة تحولت خلال فترة احتلال إسبانيا للمدينة الدولية التي دامت حوالي أربع سنوات من عمارة صغيرة هي اليوم نزل “الأخوين فوينتيس” (Los hermanos fuentes) بالسوق الداخل إلى بناية المندوبية المركزية المطلة على ساحة 9 أبريل حيث ظل العلم النازي بصليبه المعقوف يرفرف لبضع سنوات، فيما المنشورات النازية بالعربية تملأ الطرقات والأسواق.
وهناك تفصيل تاريخي صغير أيضا بخصوص لقاء فرانكو بهتلر، هو أن السفير الإسباني بألمانيا النازية الذي رتب للقاء، “اويخينيو اسبينوزا دي لوس مونتيروس”، ليس سوى جد القيادي البارز حاليا في حزب بوكس اليميني المتطرف “ايبان اسبينوزا دي لوس مونطيروس”، وهو الناطق الرسمي باسم حزب بوكس اليوم في البرلمان الإسباني. تفصيل آخر صغير هو أن والد القيادي اليميني المتطرف ليس سوى “كارلوس اسبينوزا دي لوس مونطيروس” الذي أدار فرع شركة “Mercedes” الألمانية باسبانيا لعدة عقود قبل أن يصبح مستشارا وعضوا في مؤسسات مالية واقتصادية إسبانية كبرى، من قبيل مؤسسة “Telefónica” للاتصالات وبنك “Santander”.
وحتى بعد هزيمة أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية، ستشكل إسبانيا قاعدة لإيواء بعض القادة النازيين البارزين الذين تحولوا إلى مقاولين وملاك عقارات في المناطق السياحية الإسبانية على سواحل فالنسية وكوسطا ديل صول وغيرها أو شخصيات مرموقة بصالونات مدريد، كانوا بالعشرات ولم تغفلهم أعين الاستخبارات المركزية الأمريكية، لكن كانت أعين أجهزة فرانكو تحرسهم وترعاهم.
أبرز مثال عن رجال الأعمال هؤلاء أحد القادة المقربين من هتلر واسمه “Otto Skorzeny” الذي اشتهر بعملية إنقاذ الزعيم الفاشي الايطالي “بنيتو موسوليني” خلال ترؤسه فريق القوات الخاصة النازية، وتحول إلى أحد أبطال النازية المقربين جدا من هتلر وعاش بهدوء وسلام بشارع “مونطيرا” بقلب مدريد وكان جزءا من المجتمع المخملي المدريدي خلال حقبة فرانكو.
لألمانيا صورة ايجابية في الذاكرة الشعبية الإسبانية؛ فهي كانت ملجأ للآلاف من فقراء شبه الجزيرة الأيبيرية الذين فروا إليها بحثا عن مستقبل أفضل لهم ولذريتهم، وهو ما عكسته السينما الإسبانية في أفلام عدة تظهر انتظار العائلات الإسبانية أبناءها العائدين من بلد المهجر على متن سيارات مرسيدس أو فولغسفاكن، وهم محملون بالهدايا والقصص عن أوروبا المتقدمة الواقعة ما وراء جبال البرينيه.
وحتى بعد وفاة فرانكو وانتقال إسبانيا إلى نظام الملكية البرلمانية، فقد رأت مدريد في برلين أحد حماتها الكبار داخل أروقة المجموعة الأوروبية ولاحقا الاتحاد الأوروبي، خصوصا مع وجود مشكلة جبل طارق مع بريطانيا التي جعلت مصالح مدريد ولندن تتضارب. وخلال أزمتها الأخيرة مع المغرب، سعت مدريد لتوظيف الورقة الألمانية ضد الرباط بغير قليل من الخبث حتى ظنت نفسها المالكة لأذن وعقل برلين.
لكن هناك تفصيلا صغيرا لم تدركه مدريد، هو أن عقلية الألمان تختلف عن عقلية الإسبان، كان يكفي أن يحدث تغيير سياسي بألمانيا لتعيد برلين ترتيب حساباتها الخارجية وتدرك أهمية المغرب وفرصها الضائعة في تطوير علاقات قوية مع بلد بات يشكل قوة إقليمية في المنطقة المغاربية والبوابة الرئيسية تجاه إفريقيا الواعدة. درست برلين الموضوع بروية وأرسلت إشارات لا غبار عليها للرباط التي فككت شفراتها وأعادت سفيرتها ببرلين إلى مكانها على الفور، وكانت البرغماتية السياسية هي المنطق الذي حكم مواقف البلدين.
مرة أخرى، ستجتر إسبانيا خيبتها دون أن تدرك أنها لم تفهم الإشارات التي بعث بها المغرب إليها خلال الصيف الماضي، وعقدها جعلتها تضيع فرصا كانت خلالها الرباط هي المبادرة. وبالفعل، لجأت مدريد إلى قاموس الرثاء لتفسير موقف ألمانيا على أنه “تخلٍّ” و”خذلان”، والحال أن السياسة الخارجية هي فن تحقيق المصلحة، وهو ما لم تنجزه السياسة الخارجية الإسبانية خلال السنوات الماضية بتاتا، فعوض إعمال المنطق البراغماتي اختارت مطاردة السراب وقرع الكؤوس مع الأشباح.